في زمن قريب، لم تخل ورشة ميكانيكا من شخصية “بلية”.
طفل صغير، مسود الثياب، يركض هنا وهناك، يُناوِل الأسطى المفتاح الإنجليزي، يُمسك بالكشاف (البلادوس) أسفل السيارات، بلية لم يكن مجرد مساعد، بل كان مشروع أسطى كبير، بل وأحيانا كان بلية نفسه هو ابن صاحب الورشة، وكان الأب دائما يُفاخر بأن ابنه “بيشتغل” وانه “خلف رجّالة”.
لكن فجأة، اختفى بلية.
هل لاحظ أحد اختفاءه؟
بلية في الغالب أصبح اليوم “سائق توك توك”.
بلية اليوم، صبي صغير بنفس العمر، يقود مركبة بثلاث عجلات، يجري في الشوارع بلا رخصة، يصرخ في الركاب “تعالَوا هنا” و”داخل يا باشا”، لا يتعلم صنعة، ولا يترقى في مهنة، فقط يجري وراء اليوم بيومه، يستمتع باللعب ويتفنن في تفادي المطبات والسير عكس الإتجاه .
لكن ماذا بعد ؟
ماذا بعد أن يكبر سائق التوكتوك الصغير؟
ماهي المهنة التي يتقنها؟
وهل التوك توك مهنة تُورّث وتُعلَّم؟
الأسوأ أن بعض الصنايعية الكبار أنفسهم، ممن قضوا سنوات في تعلّم الحرف، تركوا كل ذلك وراءهم ، وصعدوا التوك توك، لأن اليومية أعلى، والمجهود أقل، والعائد أسرع.
فلماذا فوجئ البعض أن هناك من ترك عمله وراح لكي يفتح “لايف” على تيك توك؟
او من اتجه لغناء المهرجانات؟
ولن نتحدث هنا عمن لجأ للتسول أو بيع المناديل.
-مع كامل احترامي للجميع، ولكنني أبحث هنا عن بلية – المنطق بسيط : فلوس أكثر، مجهود أقل.
كنا نسمع زمان أن الشغل مش عيب، وفي الوقت نفسه كانت القنوات الأرضية ، تعرض حملات توعية تدبن “عمالة الأطفال تحت السن القانوني”، اعتقادي الشخصي أن تلك الحملات ساهمت دون قصد في اختفاء بلية مع مرور الوقت.
في الإعلانات والأفلام والمسلسلات، كنا نشاهد بلية يُضرب ويُهان، ولم يخبرنا أحد بأنه يتعلّم… وأنه، في الغد، سيصبح صاحب ورشة، يفتح بيتًا، ويُعلّم أولاده.
أما اليوم، فلم يعد هناك من يتعلّم صنعة.
اُختطف بلية من الورش، وأُلقي به في الشوارع، فضاعت الحِرف، وضاعت القيمة، وضاع الجيل الذي كان من الممكن أن يُعيد للصناعة كرامتها.
فهل نُعيد بلية قبل فوات الأوان؟
عود يا بلية.