في عمق المأساة السودانية المستمرة منذ أكثر من عام، تتكشف فصول جديدة من الألم والمعاناة، وسط انهيار مروّع في القطاع الصحي الذي بات يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الحرب. المستشفيات التي كانت يومًا ملاذًا للمرضى، تحوّلت إلى أهداف عسكرية، والمرضى إلى ضحايا عاجزين حتى عن الفرار.
السودان.. الشفاء مستحيل.. والموت مؤكد
الصراع المحتدم بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا الدعم السريع لم يكتفِ بتدمير الأحياء والمدن، بل امتد ليطال المنشآت الصحية، فأُحرقت، وأُغلقت، وتحوّلت إلى ساحات قتال أو أنقاض بلا حياة. وتشير تقارير من منظمات دولية إلى أن نحو 70% من المرافق الصحية باتت خارج الخدمة أو تعمل بأقل من قدرتها، ما يُهدد بانهيار شامل لمنظومة الرعاية الصحية في بلد يرزح تحت عبء المأساة الإنسانية.
تقرير بعنوان “محاصرون، مهاجمون”، أصدرته منظمة “أطباء بلا حدود”، وصف الواقع القاسي الذي يعيشه المرضى والأطقم الطبية في السودان، حيث أصبح الوصول إلى الرعاية الصحية حلمًا بعيد المنال، في ظل استهداف المستشفيات والعيادات بشكل مباشر. حتى المرافق القليلة التي لا تزال تعمل، تفعل ذلك تحت تهديد السلاح، وغيابٍ تام للأمن.
السودان يوميات تحت الحصار
ميشيل أوليفييه لاشاريتي، رئيس عمليات الطوارئ في المنظمة، وجه نداءً عاجلاً إلى المجتمع الدولي، مطالبًا بوقف فوري للهجمات على المنشآت الصحية، ووضع حد لانتهاك حقوق المدنيين. فالعنف، كما قال، لم يعد مجرد أرقام، بل يتحول يوميًا إلى مشاهد مروعة يرصدها الأطباء المنهكون، وعمال الإغاثة الذين باتوا بدورهم أهدافًا.
منظمة “أنقذوا الأطفال” بدورها أعربت عن صدمتها من الارتفاع الحاد في عدد الهجمات على المرافق الطبية، والتي تضاعفت ثلاث مرات خلال النصف الأول من عام 2025 مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وأسفرت تلك الهجمات عن مقتل أكثر من 900 شخص، فقط لأنهم سعوا للحصول على علاج أو كانوا برفقة مريض، ما يعكس واقعًا شبيهًا بحرب ضد الحياة نفسها.
المأساة لا تقتصر على العاصمة أو المدن الكبرى، بل تشتد في مناطق مثل مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، والتي تشهد أحد أكثر المشاهد دموية. فالمستشفى الوحيد القادر على إجراء عمليات جراحية يخدم أكثر من مليون شخص وسط حصار خانق تفرضه ميليشيا الدعم السريع، واشتباكات لا تهدأ. سقط مرضى وهم على أسرّتهم، وقُتل مرافقون وهم يواسون أحباءهم في مشاهد مؤلمة تفوق حدود الخيال.
وتزداد المأساة قتامة مع تعثر عمليات الإغاثة، وصعوبة إيصال المساعدات الإنسانية، نتيجة استهداف القوافل وسيارات الإسعاف، بما فيها تلك التي تقل أطفالاً ونساءً حوامل وكبار السن. في المقابل، بدأت أمراض قاتلة مثل الكوليرا في الانتشار من جديد، وسط انهيار البنية التحتية الطبية وغياب الأدوية والمستلزمات.
الكارثة تجاوزت حدود السودان، إذ أُجبر ما يقارب 13 مليون شخص على النزوح من منازلهم، بعضهم عبر الحدود بحثًا عن الأمان، حاملين قصصًا مروعة عن ما خلفته الحرب. وتُقدّر الأمم المتحدة عدد القتلى بأكثر من 40 ألف منذ اندلاع الصراع في أبريل 2023.
رغم قبول الجيش السوداني مؤخرًا بمبادرة أممية لوقف إطلاق النار في الفاشر لتسهيل دخول المساعدات، لم تلتزم ميليشيا الدعم السريع بالاتفاق، واستمرت في قصف المناطق الجنوبية، مما أبقى المدنيين تحت الحصار، في خطر دائم من المجاعة، ومن دون أبسط حقوقهم في الدواء والرعاية.
النداءات الدولية لا تنقطع، لكن الاستجابة لا تزال خجولة. ومع كل يوم جديد، يتسع نطاق الكارثة، وتتقلص فرص النجاة. لم يعد السودانيون بحاجة فقط إلى الغذاء والدواء، بل إلى هدنة حقيقية من الموت، وإلى تحرك عالمي يتجاوز الإدانات، لحماية من تبقى على قيد الحياة.