لا تزال أزمة الكاتب الصحفي محمد الباز مع عائلة الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم تثير أصداءً واسعة في المشهدين الثقافي والإعلامي، بعدما تحولت من تصريحات جدلية إلى نزاع قضائي ثم إلى صدام حول “الرمزية” وتقييم الإرث الوطني.
وفي تصعيد مفاجئ، أعلن الباز نيته التقدم بطلب رسمي لسحب وسام الفنون من الطبقة الأولى الذي منحته الدولة لنجم قبل سنوات، مستندًا إلى ما وصفه بـ”تاريخ من دعم الإرهاب والسخرية من الجيش المصري”.
“لا يمكن أن نكرم من دافع عن قتلة رؤساء، وسخر من جيش بلده، واحتفى بإرهابيين مثل خالد الإسلامبولي… من يدافع عن الإرهاب، هو واحد منهم”، قال الباز في أحد تصريحاته التي أثارت عاصفة من الجدل.
تصريحات اعتبرتها أسرة نجم إهانة بالغة لرمز ثقافي ووطني لا تزال قصائده محفورة في وجدان الشارع المصري والعربي، الأمر الذي دفع نجلة الشاعر الراحل إلى التحرك قانونيًا ضد الباز، لتشتعل بعدها فصول الأزمة.
البداية: كلمات على “السوشيال ميديا” تُشعل النار
انفجرت الأزمة حين نشر محمد الباز في مطلع عام 2023 مقطع فيديو على صفحته الرسمية على “فيسبوك”، تحدث فيه عن ما وصفه بـ”زيف صورة أحمد فؤاد نجم”، معتبرًا أنه “كان ممولًا سياسيًا، أكثر منه شاعرًا وطنيًا”، كما أشار إلى علاقاته بأنظمة مثل نظام القذافي والأسد، ودعمه لتيارات إسلامية متطرفة.
هذه التصريحات أثارت استياء العديد من المثقفين، كما دفعت نوارة نجم، نجلة الشاعر، إلى الرد عبر حساباتها، مؤكدة أن “الباز تجاوز كل الحدود الأخلاقية”، واتهمته بالخوض في شرف والدها ونعته بأوصاف مهينة.
الطريق إلى المحكمة: بلاغ وتشكيك في النوايا
قررت نوارة اللجوء إلى القضاء، وتقدمت ببلاغ رسمي إلى مباحث الإنترنت تتهم فيه الباز بسب وقذف والدها الراحل عبر وسائل التواصل، وبالإساءة لعائلته والتشكيك في نواياهم الوطنية.
وقالت في تدوينة لاحقة: “ما فعله الباز ليس نقدًا، بل طعن مباشر في تاريخ أبي، ومحاولة للنيل من رمزية وطنية لا تخص عائلتي فقط، بل كل مصري آمن يومًا بقيمة الكلمة”.
الحكم: إدانة الباز وتعويض مؤقت
في يونيو 2025، أصدرت محكمة الجنح الاقتصادية حكمًا بحبس محمد الباز شهرًا، مع إلزامه بدفع كفالة مالية لوقف التنفيذ مؤقتًا، وتعويض مدني مؤقت قدره عشرة آلاف جنيه.
الحكم فتح نقاشًا واسعًا حول حرية التعبير وحدودها، وتساءل كثيرون: هل أخطأ الباز حقًا؟ أم أن محاكمته تضييق على النقد؟
الباز نفسه أكد في تصريحات لاحقة أن “الحكم لا يخيفه”، وأنه سيستأنف، لأنه لم يرتكب جريمة، بل مارس حقه في النقد كمثقف وكاتب.
موقف نقابة الصحفيين: تضامن مشروط
من جهته، أعرب نقيب الصحفيين خالد البلشي عن انزعاجه من الحكم الصادر، مؤكدًا موقف النقابة الرافض لعقوبات الحبس في قضايا النشر عمومًا.
وقال في بيان رسمي: “نؤمن بحرية التعبير، ونرفض الحبس، لكننا أيضًا لا نتدخل في مضمون القضايا طالما أنها أمام القضاء”.
اللافت أن البلشي لم يُصدر بيانًا دفاعيًا مباشرًا عن الباز، وإنما اكتفى بالإشارة إلى ضرورة إقرار قوانين تحظر الحبس في قضايا النشر، تنفيذًا لنص المادة 71 من الدستور.
مفاجأة التنازل: نوارة تتراجع احترامًا للمبدأ
رغم الحكم القضائي لصالحها، أعلنت نوارة نجم في خطوة غير متوقعة تنازلها عن الدعوى الجنائية المرفوعة ضد محمد الباز، مشيرة إلى أن قرارها نابع من احترامها لمبدأ “عدم الحبس في قضايا الرأي”.
وقالت: “لا أقبل أن يدخل أحد السجن بسبب رأيه، مهما كان مؤلمًا. أختلف معه بشدة، لكني أرفض سجنه”.
وأضافت أنها ستواصل القضية من الناحية المدنية فقط، في إشارة إلى استمرار تمسكها بالرد الرمزي على تصريحات الباز.
وسام الفنون: النقطة المفصلية في المعركة
تصريحات الباز بشأن طلبه سحب وسام الفنون من أحمد فؤاد نجم مثّلت ذروة التصعيد. فقد فتح بذلك ملفًا حساسًا يرتبط بذاكرة الدولة الثقافية، وبمعايير تكريم الرموز.
وبرر الباز موقفه قائلًا: “وسام الفنون لا يجب أن يُمنح لمن يكتب في تمجيد القتلة، ويسخر من الجيش الذي يحمي البلاد”، في إشارة إلى قصائد نجم التي تناولت أحداث اغتيال السادات وصعود الإسلاميين في الثمانينيات.
المفارقة أن الصراع تجاوز في حقيقته الباز ونجم، ليمس قضايا أعمق مثل: هل يمكن إعادة تقييم الرموز بعد رحيلهم؟ وهل الكلمة – حتى لو جارحة – تستحق الحبس؟ وما هي حدود النقد المقبول في مجتمع متنوع الآراء؟